آخر المواضيع

30 عاما على اتفاقية أوسلو: «الفلسطينيون عالقون»


 كيف يمكن الكتابة عن اتفاق أوسلو بعد 30 عاما على توقيعه في 13 ايلول/سبتمبر 1993؟ إنه سؤال كبير، يوازي ما فعله الاتفاق في القضية الفلسطينية، حيث شكل انعطافا كبيرا في تجربة النضال الفلسطينية ومشروع التحرير الفلسطيني برمته وصولا إلى ما يطلق عليه الأكاديمي علي الجرباوي «العلقة الفلسطينية» أو «المحشر» حيث وقع الفلسطينيون في المصيدة أو الفخ الإسرائيلي، وهي مرحلة مليئة بالخيبات والخسارات وفقدان الخيارات، وفيها يقف الفلسطينيون في مربع صفري أو هكذا يبدو بالانطلاق من اللحظة الراهنة.

لقد وقع الفلسطينيون على أوسلو وهي مليئة بنقاط الضعف والمشاكل الكبيرة، اعتمدوا على النوايا الحسنة والتفاؤل المبالغ فيه، وهو ما عماهم عن رؤية عيوبه ومثالبه على قضيتهم ونضالهم وحلم دولتهم المستقلة.

ولعل نقطة الضعف الرئيسية، وأول وأهم عيب هو أن الاتفاقية التي وقع عليها الفلسطينيون، من دون أن تعرض للنقاش الفلسطيني الداخلي، أنها «لم تعالج المطالبة الإسرائيلية غير القانونية بالأراضي المحتلة، فإسرائيل ادعت دائما أنها ليست «محتلة» وأنها موجودة في الأراضي المحتلة بحكم حقها فيها. فلم يوجد في الاتفاقية ما يشير إلى أن إسرائيل تخلت عن أي جزء من هذا الادعاء. كما أن الاتفاقية وفق ذلك لا تجابه هذه المسألة، بل تتجنب الحديث عنها. فمثلا لم يكن يوجد في الاتفاقية ما يشير إلى أن النشاط الاستيطاني سيتوقف، وبعدم اعتراض المفاوض الفلسطيني على ذلك كان جوهرياً قد تغاضى عنه، ويمكن لإسرائيل أن ترى ذلك على أنه قبول ضمني، وعلى أنه تخل عن حقنا في دولة مستقلة».
تفرع عن هذا العيب عيب ثان، وهو القبول الضمني بكيانين منفصلين في المناطق الفلسطينية، وبإدارتين منفصلتين، ونظامين قضائيين منفصلين، أي سياسة تمييز عنصري بصورة غير مباشرة. والفلسطينيون بإقرارهم بهذا الوضع، وبتأجيله، فإنهم سلموا بوضع قام بصورة غير شرعية. وهكذا فإن ما حدث هو أن الفلسطينيين وبمحض اختيارهم ساعدوا في إضفاء الشرعية على ما أنشأته إسرائيل بطريقة غير شرعية.

أما المسألة الثالثة فهي وبينما عدِّدت الاتفاقية القضايا المؤجلة، مثل: القدس، والمستوطنات، والحدود، إلخ، فإنها لم تتناول أي انسحاب يتعدى الانسحاب في المرحلة المؤقتة. فالانسحاب الكامل، لا من مراكز تجمع السكان فقط، بل إلى خارج حدود الأراضي المحتلة، لم يرد ذكر له فيما يتعلق بمفاوضات المرحلة النهائية، كما أن إسرائيل أوضحت مراراً وتكراراً أنه لا نية لديها للانسحاب إلى خارج الأراضي المحتلة، ولم تظهر الاتفاقية، بأي شكل من الأشكال، أن هناك استعداداً لذلك، حتى في المرحلة الثانية من الاتفاقية.

أما العيب الرابع الذي ينظر إليه على أنه من المشكلات الكبرى، فيرتبط بكونها صيغت بعبارات عامة تركت مجالاً لتفسيرات واسعة، وما حاول الفلسطينيون فعله هو أنهم حاولوا قراءتها بما ليس موجوداً فيها، وقضية النازحين سنة 1967 خير مثال على ذلك، فما نصت عليه الاتفاقية هو أن الموضوع خاضع للمناقشة، وسيكون لإسرائيل دائماً حق النقض «الفيتو» عليه.

يضاف إلى كل ذلك رغم أن الاتفاقية تضمنت، وبصفة خاصة انسحاب الحكم العسكري، ولو جزئياً، وهو ما عنى تسهيل حياة الفلسطينيين اليومية، لكن من قال إن هذا ما كان يناضل من أجله الفلسطينيون؟ لقد قام نضالهم من أجل حقوقهم القومية، ومن أجل إنهاء الاحتلال، والحصول على استقلالهم.

وما يحدث اليوم بعد 30 عاما على الاتفاقية أن إسرائيل أرادت سلاماً يحمي مطالبتها بفلسطين كلها. «لقد قدم الفلسطينيون تنازلات جدية من أجل السلام، عندما تبنوا مبادرة السلام سنة 1988 وقبلوا مبدأ الدولتين حلّا، حيث قاموا بالتنازل عن ثلاثة أرباع أرضهم. أما أوسلو فقد عنت أنهم أسقطوا إصرارهم على عدم شرعية إسرائيل، وهو ما كان يعني تنازلهم عن الربع المتبقي».

لقد قال الإسرائيليون دائماً إنه «لا يوجد مكان لدولة بين إسرائيل والأُردن، وحقيقة أن الاتفاقية نفسها تكرس وجود كيانين منفصلين في الأراضي المحتلة يجعل قيام دولة مستقلة في المحصلة النهائية مستبعداً. إن الاحتلال الإسرائيلي يريد سلاماً يكفل ما يرون أنه حقهم، سلاماً يحمي مطالبتهم بفلسطين كلها».

«لقد وجدت إسرائيل في المناطق الفلسطينية بفضل قوتها العسكرية، واستطاعت أن تفرض على الفلسطينيين ما أرادت أن تفرضه ضد إرادتهم وضد مقاومتهم، وبقوتها العسكرية، ولم يوجد في الاتفاقية أي شيء يشير إلى أن إسرائيل ستوقف عملية بناء المستوطنات مثلا. لقد رفضوا أن يلزموا أنفسهم بتجميد الاستيطان، وهذا يعني أنهم يحتفظون بخياراتهم مفتوحة في كل الملفات».

كل ما ذكر سابقا باستثناء الفقرة الأولى والثانية تصريحات صحافية أدلى بها الدكتور حيدر عبد الشافي، رئيس الفريق الفلسطيني المفاوض رسمياً في محادثات السلام في الجولات العشر الأولى بعد مؤتمر مدريد في حوار خاص مع مجلة «الدراسات الفلسطينية» ونشر في العدد 16 خريف 1993 أي قبل ثلاثين عاما بالتمام والكمال.

ويبدو هذا الحوار مدخلا هاما لإعادة النظر إلى أوسلو بعد 30 عاما، والسبب في ذلك أنه ومنذ لحظات التوقيع الأولى على الاتفاق كان هناك من يمتلك رؤية نقدية تدلل على ما سنصل إليه بعد ثلاثة عقود، ويبدو كل ما تحدث عنه عبد الشافي حاضرا وطازجا وكأنه قال كل ما قاله في الذكرى الماثلة أمامنا.

وفي ذات المقابلة ظهر عبد الشافي من أشد المعارضين لأوسلو، وقال: «لن أنشط في معارضة الاتفاقية. يجب أن نعطي الذين صنعوا هذه الاتفاقية فرصة لمناقشة تطبيقها مع الإسرائيليين ونرى ما سينجم عنها، لنرى إن كان في الإمكان أن تتطور إلى ما هو أفضل منها».

ورغم ذلك الموقف المعلن في ذات الحوار المهم استخدم عبد الشافي جملا حاسمة في حديثه عن أوسلو، مثل: «ليس هذا ما كنا نناضل من أجله» و «لا أعتقد ان ذلك سيحدث» و«لا أرى أن هناك ما يبرر هذا التفاؤل» و«لا نية لدى إسرائيل للسماح بقيام دولة فلسطينية أبداً».

كما وركز في حديثه على ما تنازل عنه الفلسطينيون وهو خيار الدولة المستقلة، حيث قال: «إني أحاول أن أرى كيف يمكن استعادة ما تنازلنا عنه في هذه الاتفاقية، وأعني بذلك مطالبة إسرائيل بالأراضي المحتلة، والتي تلغي بطريقة ما خيار الدولة المستقلة».
وتابع: «إسرائيل مبتهجة بأن الفلسطينيين في الجوهر قد تنازلوا أخيراً، تخلوا أخيراً عن حقهم في دولة مستقلة، وقبلوا بالحكم الذاتي كمرحلة نهائية على الرغم من الحديث عن مرحلة ثانية من المفاوضات يتقرر فيها شكل المرحلة النهائية».

وعن البديل تحدث عبد الشافي (رحل عام 2007) بإنه «كان عدم التوقيع، على الأقل ما كنا تنازلنا عن حقوقنا» و«كان يجدر بنا أن نقوم بترتيب بيتنا. إن مجرد حقيقة أننا وقعنا هذه الاتفاقية، والطريقة التي قدمت فيها، وقد وقّعت بالأحرف الأولى من دون مناقشة، هي في حد ذاتها مؤشر على الفوضى الرهيبة التي يجد الفلسطينيون أنفسهم فيها».

وسيندهش قارئ حوار مجلة «الدراسات الفلسطينية» اليوم، فالشخص الذي حاور عبد الشافي حشد له كل المقولات التي يرددها المتحمسون للاتفاقية، تلك المقولات التي تم ترديدها منذ 30 عاما وحتى اليوم، فيما كان يجيب بثقة ورؤية واضحة، بناء على فهمه لطبيعة الاستعمار والدولة الصهيونية وكيف تنظر إلى الحق الفلسطيني.

والأهم في الحوار الذي يمكن مطالعته اليوم ليضعنا بالحذافير عند ما وصلت إليه القضية الفلسطينية، فمن يقرأ الحوار متمعنا، يدرك لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وعندها لن يستهجن الصورة التي عرضها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الجمعة، خلال إلقاء كلمته في الجمعية العمومية للأمم المتحدة حيث عرض خريطة فلسطين تظهر فيها إسرائيل من دون دولة فلسطينية ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد في عز لحظات الاحتفال والتبشير بعلاقات التطبيع مع السعودية.

..العلقة الفلسطينية..

وبالعودة إلى مقولة الأستاذ في العلوم السياسية علي الجرباوي في كتابه الأخير الذي حمل عنوان: «من الطرد إلى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين» فإنه أوسلو (الحكم الذاتي) كان وسيلة من وسائل التعامل مع الفلسطينيين في ظل المأزق الاحتلالي بالسيطرة على كامل الأرض الفلسطينية.

وبرأي الجرباوي فإن الحركة الصهيونية قامت بالأساس على خرافة "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» فيما كانت كل محاولات الحركة الصهيونية حتى عام 1948 تصب باتجاه طرد الفلسطينيين والإحلال مكانهم، الأمر الذي نجحت فيه عام 1948 باستيلائها على 78 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية، وطرد نحو 800 ألف فلسطيني، أي الأغلبية الكبرى، ما يعني أن المشروع الصهيوني آنذاك حقق قصة نجاح".

وأكمل الجرباوي في ندوة نظمها معهد أبو لغد في جامعة بيرزيت لمناقشة الكتاب أن «المفارقة العجيبة في المشروع الصهيوني تمثلت في العام 1967 التي شهدت الحرب المسماة إسرائيليا بحرب الأيام الستة، والتي جاءت بهذا الاسم لإهانة العرب، كونها احتلت 7 أضعاف المساحة خلال 6 أيام فقط، محققة بهذا انتصارا عسكريا هائلا، إلا أن هذا الانتصار خلق معضلة للمشروع الصهيوني، لأنه أصبح يسيطر على الأرض لكن في وجود فلسطيني كثيف». وأكمل: " لذلك أصبحوا غير قادرين على طردنا فيزيائيا، فتحول الفكر لإيجاد حل إجرائي، ومن هنا بدأوا بمداولات ما أسموه (الحكم الذاتي/ الحكومة الذاتية) أي فصلنا عنهم رغم وجودنا على الأرض، محاولين بهذا منع إمكانية أن نصير جزءا من إسرائيل".

ويرى الجرباوي أن موضوع الحكم الذاتي تدحرج من عام 1977 إلى كامب ديفيد في عام 1978 ومن ثم وبعد الانتفاضة الأولى عام 1987 وصولا إلى أوسلو عام 1993 حيث هو ذات الاتفاق الذي تم الحديث عنه في «كامب ديفيد».

وأشار إلى أن الاتفاق هدف إلى خلق كيانية فلسطينية تسمح لإسرائيل أن تفصل الفلسطينيين عنها، وبالتالي تكون وظيفة السلطة الفلسطينية الأساسية بالنسبة لإسرائيل إلى جانب التنسيق الأمني هو أن تخلق مركزا قانونيا يفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين حتى لو استمروا في العيش إلى جوارهم قرنا من الزمن، وهو ما يصفه بمصطلح «الترانسفير القانوني» في ظل عجزهم عن تنفيذ «الترانسفير المادي».

ويخلص جرباوي في كتابه إلى استنتاج مفاده أن حل الدولتين لم يعد ممكنا، فإسرائيل بكل أطيافها لم توافق ولا مرة واحدة على إقامة دولة فلسطينية، وأكثر ما وافق عليه من الرئيس الإسرائيلي الراحل رابين الذي هندس أوسلو وصولا إلى نتنياهو هو ما يطلق عليه «الدولة سالب» أي حكم ذاتي يفصل الفلسطينيين عن الإسرائيليين، رغم عيشنا مع بعضنا البعض مع استئثار الاحتلال بالأرض.

وشدد على أن حل الدولتين غير ممكن على الاطلاق، إلا إذا قبل الفلسطينيون أن تكون دولتهم مفصلة كما يريدها الإسرائيليون، أي دولة غير مستقلة، مفصلة في حجمها وسيادتها وحقوقها كلها، ومن طرح ذلك هو الرئيس الأمريكي ترامب.

وتابع، كما أنه ومن ناحية ثانية فإن الدولة الواحدة غير ممكنة أيضا، فدولة واحدة (ثنائية القومية) يعني أن يتم إزالة الجسم المانع لتحقيق الدولة الواحدة، وهو السلطة الفلسطينية التي تمنح الفلسطينيين جنسية مختلفة عن الجنسية الإسرائيلية. ويقول: " بعد 25 سنة على السلطة لم يعد بالإمكان حلها، لقد نمت مصالح هائلة دولية وإقليمية وإسرائيلية وفلسطينية تعمل وتدعم استمرار وجودها".

وهنا يخلص إلى " نحن في علقة أوجدنا أنفسنا فيها، نحن في المحشر. لم يعد ممكنا الذهاب للوراء ولا العودة للأمام، لقد علقنا، نحن في علقة مستمرة " .

ويختم إلى الاستنتاج المؤلم في تجربة السنوات الثلاثين من عمر أوسلو مشيرا إلى أن الفلسطينيين راكموا حجما كبيرا من الأخطاء، فيما ما زالوا يراكمون حتى اللحظة، من دون أن يعترفوا أنهم أخطأوا، وهذا هو الطريق لرؤية المسار وتعديله.

إرسال تعليق

0 تعليقات

تابعنا على وسائل التواصل الاجتماعي

أخر المنشورات

أهم الاخبار

انضم لموقعنا